المجلس الدولي لحقوق الإنسان يناقش النزاع والحق في الغذاء
في إطار دورته الـ52
ناقش المجلس الدولي لحقوق الإنسان، مختلف أشكال العنف الكامنة في المنظومات الغذائية التي تلحق الضرر بالناس وتولِّد ظروفاً تفضي إلى انتهاكات حقوق الإنسان.
يأتي ذلك في إطار انعقاد الدورة الـ52 لمجلس حقوق الإنسان الأممي بجنيف خلال الفترة من 27 فبراير حتى 4 إبريل 2023، للاستعراض الدوري الشامل، بهدف توفير مساعدة تقنية للدول، وتوطيد قدرتها على معالجة تحديات حقوق الإنسان لديها.
وأوضح التقرير الأممي أن مصالح وهويات مختلفة تواجه أشكالا متقاسمة من العنف، مبرزاً أن المنظومة الغذائية لا تنتج الغذاء فحسب؛ بل تعمل أيضاً على نحو يصب في تضخيم العنف وإنتاجه وجعل الناس أكثر فقراً وضعفاً وتهميشاً.
مقدار الفتك
وأكد التقرير أن جائحة فيروس كورونا كشفت عن مقدار الفتك الذي يمكن أن يسببه التمييز وعدم المساواة، وذلك إلى جانب التمييز النظامي واللامساواة الهيكلية السببين الجذريين لانتهاكات حقوق الإنسان.
وعادة ما يعالج قانون حقوق الإنسان اللامساواة من خلال التركيز على الأفراد الفقراء أو الضعفاء، كما أن قانون حقوق الإنسان يقتضي التدقيق في الكيفية التي يصبح بها الناس فقراء أو ضعفاء أو مهمشين، وما الذي ينتج اللامساواة، فاللامساواة الهيكلية ليست حدثاً طبيعياً أو وضعاً شاذاً بل هي نتاج لمنظومات فاعلة بما فيها المنظومة الغذائية.
ولا يمكن إعمال الحق في الغذاء على نحو تام، إلا عندما تفهم جميع الجهات الفاعلة المعنية كيف تفضي منظوماتنا الغذائية إلى جعل الناس عرضة للأذى.
ويكون العنف الكامل في المنظومات الغذائية مؤذياً، لا سيما للأشخاص المهمشين والمجتمعات الأصغر والأسر المعزولة والعمال الذين يفتقرون إلى الموارد اللازمة للمساومة والتحرك الجماعيين، وعلى نطاق واسع معرضون بوجه خاص للعنف في أوقات الشدة والأزمات وعندما يكون المسئولون عن تقديم الأغذية عرضة للعنف تصبح المجتمعات أيضاً عرضة له.
العنف في الغذاء
وكشف التقرير أن العنف في المنظومات الغذائية تزايد في السنوات الأخيرة بسبب الترابط بين مختلف العوامل التي تؤثر في الأمن الغذائي العالمي، فعلى سبيل المثال كثيراً ما تكون المجتمعات الريفية التي تعاني من فقدان سبل العيش التقليدية والمزارعون الذين يواجهون استيلاء الشركات القوية على أراضيهم يتأثرون بشدة بتغير المناخ والجفاف، وفي كثير من الحالات كانت المجتمعات المضطرة إلى خوض صراع مرير مع الشركات من أجل الحفاظ على أراضي أجدادها وصون معارفها التقليدية وبذورها، هي نفسها تلك التي اضطرت إلى الاعتماد بدرجة كبيرة خلال الجائحة العالمية على معارفها وعادات أجدادها الغذائية وممارساتها الكلية من أجل البقاء.
ولدى إعداد التقرير، وجد المقرر الخاص أن اللامساواة الهيكلية قد جعلت أعدادا كبيرة من الناس أكثر عرضة للعنف، وفي المقابل مثّل العنف النظمي سبباً مهماً للمساواة الهيكلية وتتسبب هذه الحلقة المفرغة من اللامساواة الهيكلية والعنف النظمي في انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، لا تنتج المنظومات الغذائية الغذاء فحسب، بل تولد أيضاً وتنتج العنف الذي يجعل الناس أكثر فقراً وضعفاً وتهميشاً، ويقدم المقرر الخاص في التقرير سردا لمختلف أشكال العنف الكامنة في المنظومات الغذائية، التي تؤذي الناس وتولد الظروف المفضية إلى انتهاكات حقوق الإنسان.
ولا يحاول المقرر الخاص تناول جميع أشكال العنف الكامنة في المنظومات الغذائية، لكنه بدلاً من ذلك يستند إلى المدخلات الواردة لتقديم سرد حول كيفية تعرض المصالح والهويات المختلفة لأشكال متقاسمة من العنف.
ويضع المقرر الخاص العنف في إطار نظمي مركِّزاً على كيفية إسهامه بصورة تلازمية في هيكلة المنظومات الغذائية، ويوجد المقرر الخاص أربعة أشكال متداخلة ومترادفة من العنف والتمييز والإيذاء البدني أو المساس بالسلامة البدنية والعقلية للأشخاص والعنف الإيكولوجي والطمس.
تداعيات العنف والنزاع
وخلصت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) وبرنامج الأغذية العالمي في دراسة مشتركة، إلى أن العنف والنزاع لا يزالان يمثلان المحرك الرئيسي للجوع الحاد في أجزاء كثيرة من العالم، واستنتجت أن الجوع والعنف قد يستفحلان في عام 2022 خاصة في ظل تدهور الاقتصاد العالمي.
وارتفعت على مدى السنوات الأربع الماضية نسب انتشار الجوع في العالم ومن المتوقع أن تستمر في الارتفاع في المستقبل القريب، ما سيؤدي إلى احتياجات إنسانية قياسية.
غير أن النزاعات والكوارث الطبيعية وحدها لا يمكن أن تفسر هذا الاتجاه ويتطلب فهم العنف النظمي الكامن في المنظمات الغذائية النظر إلى هذه المنظومة باعتبارها جزءاً من الاقتصاد العالمي، فالاقتصاد العالمي اليوم هو استمرار لعملية دامت قروناً في ظل دينامية قائمة على التبعية والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية على نحو يدعمه القانون الدولي عموماً والنظم القانونية الوطنية.
وقد عطلت البلدان والشركات في سعيها إلى استخراج الموارد من الطبيعة العلاقات الاجتماعية والإيكولوجية للناس وإعادة تشكيلها الأمر الذي حدَّ من قدرتهم على الوصول إلى سبل عيش مستقرة وعرَّض وجودهم في حد ذاته للخطر.
وشكلت هذه الدرجة من التعطيل وإعادة التشكيل عملاً عنيفاً في حق الناس حطّ بكرامتهم وإنسانيتهم بممارسات كثيراً ما تقوم على أساس فئات الإعاقة والعرق والهوية الجنسانية.
وتتجسد اللامساواة الهيكلية الناجمة عن ذلك في أن الأشخاص الذين يعيشون في أوضاع هشة أو ينتمون إلى مجتمعات مهمشة عادة ما يشكلون -كما هو متوقع- الطرف الخاسر الذي تهضم حقوقه لا سيما الحق في الغذاء.
وبرز خلال أزمة الغذاء الحالية كيف أن الشركات العاملة في قطاع الأغذية الزراعية تجني الأرباح الطائلة، بينما يكافح الناس ويعانون من اشتداد ضنك الحياة وتزداد ثروة مليارديرات قطاع الأغذية بمقدار بليون دولار كل يومين.
وفي عام 2021 حققت شركة كارجل، إحدى كبرى شركات تجارة المواد الغذائية في العالم، ما يقرب من خمسة بلايين دولار من الدخل الصافي، وهو أكبر ربح في تاريخها الممتد 156 عاماً، علما بأن التوقعات تشير إلى أن مكاسبها ستكون أعلى في عام 2022.
تضخيم الأزمة
وتسهم الأسواق اليوم في تضخيم الأزمة بينما تبقى عرضة للتقلبات بسبب اعتماد المنظومة الغذائية العالمية على عدد صغير من أنواع الحبوب الأساسية المنتجة صناعيا وعدد صغير من البلدان التي تنتج تلك الحبوب لأغراض التصدير وعدد صغير من الشركات التي تهيمن على سوق الأغذية الزراعية.
ومنذ ثمانينيات القرن الماضي هيمن على العالم تصور سائد مؤداه أن الحكومات ينبغي أن تتوقف عن استخدام السياسات الزراعية الدولية لأغراض التعاون أو لمحاولة تحقيق الاستقرار في الأسواق، وبدلا من ذلك لم يفتأ صناع السياسات يتحركون في ضوء حسابات قصيرة الأجل تقوم على الإنتاج السريع والبحث عن أقصى قدر من الأرباح.
واكد التقرير الأممي أن المواطنين في أوكرانيا يناضلون من أجل حقوق الإنسان الواجبة لهم ومن أجل سلامة أراضي بلدهم وهم يواجهون -إلى جانب قيود قاسية أخرى- نقصاً في الغذاء، إثر تعرض المزارع والحقول ومخازن البذور الأوكرانية للهجوم والتدمير من جانب الجيش الروسي.
وفي هذا الإطار ينبغي أن ينهي الاتحاد الروسي الحرب فوراً وبدون شروط تماماً، كما ينبغي لجميع الدول الأخرى أن تنهي فوراً أي عمليات غزو واحتلال.
وقبل التصعيد في فبراير 2022 كان يعيش في أوكرانيا 9.9 من 10 ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي بصورة معتدلة أو شديدة، وكان تمت أزمة غذائية في المنطقة الشرقية من إقليمي دونيتسك ولوهانسك.
وبعد اندلاع الحرب برزت أدلة متزايدة على أن فقدان الدخل وتعطل سلسلة التوريد وارتفاع الأسعار، وما يتصل بذلك من اعتماد على المساعدات الغذائية أمور تؤثر تأثيراً كبيراً على إمكانية الحصول على الغذاء والقدرة على تحمل تكاليفه في جميع أنحاء البلد.
وأكد التقرير أن غزو أوكرانيا من جانب الاتحاد الروسي أدى على الفور تقريباً إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية مثل القمح وزيت الطهو، وفي حالة القمح لم يكن ذلك نتيجة لنقص الإمدادات.
ويوفر الاتحاد الروسي وأوكرانيا نحو 30 من صادرات القمح في العالم، وفي بداية الحرب كان العجز المقدر في تصدير القمح يبلغ 7 ملايين طن، وفي مقابل ذلك بلغ الإنتاج العالمي من القمح في عام 2021 ما قدره 778 مليون طن، ومن ثم فإن النقص المتوقع كان من شأنه أن يشتمل فقط على 9 بالمئة من محصول القمح العالمي.
إنذار عالمي
وأطلقت الحرب إنذاراً عالميا مرده أن 36 دولة تعتمد على الاتحاد الروسي وأوكرانيا في أكثر من نصف وارداتها من القمح، بما في ذلك بعض أفقر البلدان وأكثرها ضعفاً في العالم.
وبسبب هذه التبعية أصبحت هذه البلدان الآن أكثر تعرضاً لانعدام الأمن الغذائي، ونتيجة لذلك تضطر البلدان التي تعوِّل على القمح المستورد من أوكرانيا إلى التعويل بصورة متزايدة في الحصول على الغذاء على برنامج الأغذية العالمي، الذي يعتمد بدوره على أوكرانيا للحصول على نصف قمحه من بين سلع غذائية أخرى وبسبب نفس علاقة التبعية تعطّل على نحو جسيم كل من النظام العالمي للإغاثة الإنسانية ونظام التجارة الدولية.
وخلص التقرير الأممي إلى أن الاقتصاد السياسي المعاصر القائم على الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية على الصعيد العالمي لا يمكن فهمه فهماً صحيحاً دون الإشارة إلى أصوله الاستعمارية العنصرية.
وأوضح كيف تعتمد هذه الاقتصادات الاستغلالية على اللامساواة الهيكلية التي تضطهد الناس على أساس هوياتهم المتداخلة، مسلطاً الضوء على ارتباطها بمكونات اجتماعية متقاطعة وهياكل قائمة على الهيمنة.
ووفقا للمقرر الخاص، يجسد مفهوم التقاطع على حد سواء النتائج الهيكلية والدينامية للتفاعل بين شكلين أو أكثر من أشكال التمييز أو نظم التبعية، فهو يتناول على وجه التحديد الطريقة التي تسهم بها العنصرية والنظام الأبوي والحرمان الاقتصادي وغيرها من النظم التمييزية في خلق طبقات من اللامساواة تحدد المراكز النسبية للنساء والرجال والأعراق والمجموعات الأخرى.
ويتناول المفهوم أيضاً الطريقة التي تخلق بها أفعال وسياسات محددة عقبات على امتداد المحاور المتقاطعة على نحو يسهم في دينامية عدم التمكين، وخلاصة القول هي أن الأفراد يجدون أنفسهم سواء في أوقات السلم أو الحرب في مواجهة عنف يتقاطع فيه الاستغلال الناشئ عن علاقتهم بالأرض ونواتج عملهم والقمع الناشئ عن هويتهم الدينامية المتنوعة.
ويعقد مجلس حقوق الإنسان (تأسس عام 2006) ما لا يقل عن 3 دورات عادية في العام، لفترات مجموعها 10 أسابيع على الأقل، وهي تُعقد في أشهر مارس (لمدة 4 أسابيع) ويونيو (لمدة 3 أسابيع)، وسبتمبر (لمدة 3 أسابيع).
ويجوز لمجلس حقوق الإنسان -إذا طلب ثلث الدول الأعضاء (عددها 47)- أن يقرر في أي وقت عقد دورة استثنائية لتناول انتهاكات وطوارئ حقوق الإنسان.